عاد مصطلح “دول العالم الثالث” إلى دائرة النقاش السياسي في الولايات المتحدة بعد إعلان الرئيس دونالد ترامب في 28 نوفمبر 2025 عن وقف الهجرة “بشكل دائم” من هذه الدول، على خلفية حادثة إطلاق نار استهدفت عناصر من الحرس الوطني في واشنطن. ورغم ربط القرار بتداعيات أمنية مباشرة، إلا أن إعادة استخدام هذا التصنيف المتقادم أثار اهتماماً واسعاً وبحثاً مكثفاً، خاصةً حول مدى دقة تطبيقه في السياق الاقتصادي المعاصر.
وتشير تقارير البنك الدولي لعام 2024 إلى أن هذا التصنيف لم يعد معتمداً في أي من المؤسسات الدولية الكبرى، وذلك لأنه يضفي انطباعاً خاطئاً بتجانس هذه الدول وتخلفها عن بقية العالم. في الواقع، تتسم هذه البلدان بتنوع اقتصادي كبير، حيث يبرز بعضها كأسرع الاقتصادات نمواً، بينما يمثل البعض الآخر قوى صناعية رئيسية.
الولايات المتحدة والعنف: أرقام تتجاوز تصنيف “دول العالم الثالث”
تكشف أحدث البيانات الصادرة عن مكتب الأمم المتحدة لمكافحة المخدرات والجريمة لعامي 2023-2024 عن تسجيل الولايات المتحدة لمعدل جرائم قتل بلغ 6.3 حالات لكل 100 ألف نسمة. هذا المعدل يتجاوز بكثير مثيله في دول غالباً ما توصف بأنها “دول عالم ثالث”، مثل مصر (0.8)، والأردن (1.6)، والمغرب (1.4)، وسلطنة عُمان (0.5)، وقطر (0.4)، وإندونيسيا (0.5). بل إن الرقم يقارب ستة أضعاف متوسط معدلات القتل في دول شرق آسيا.
ويؤكد مؤشر السلام العالمي لعام 2024 هذا الاتجاه، حيث احتلت الولايات المتحدة المرتبة 131 من بين 163 دولة من حيث مستويات العنف والأمن. وذلك على الرغم من أن العديد من الدول التي تحتل مراتب أفضل تعاني من دخل أقل ومستويات فقر أعلى، إلا أنها تتمتع باستقرار أمني أكبر.
انتشار الأسلحة والفجوات في الرعاية الصحية النفسية
ويرى خبراء العنف المسلح أن السبب الرئيسي وراء هذا التفاوت الكبير يكمن في الانتشار غير المسبوق للأسلحة في المجتمع الأمريكي. فبحسب إحصائيات حديثة، يمتلك المدنيون في الولايات المتحدة ما يصل إلى 120.5 سلاحاً لكل 100 نسمة، وهو الأعلى على مستوى العالم. بالمقابل، فإن معظم الدول ذات الدخل المنخفض والمتوسط لا تمتلك سوى أقل من 10 أسلحة لكل 100 نسمة.
إلى جانب ذلك، تلعب فجوات الرعاية الصحية النفسية دوراً مهماً في تفاقم مشكلة العنف في الولايات المتحدة. يجمع الخبراء على أن تضافر هذه العوامل يؤدي إلى ارتفاع معدلات العنف مقارنة بالدول التي قد يكون دخلها أقل، ولكنها تتمتع بأمان أكبر.
ما هي “دول العالم الثالث” وما الذي يجعل هذا التصنيف مضللاً اقتصادياً؟
أوضح البنك الدولي أن مصطلح “دول العالم الثالث” لم يعد مستخدماً في الأدبيات الاقتصادية منذ سنوات، ولا توجد “قائمة رسمية” تحدد هذه الدول. وبدلاً من ذلك، تعتمد المؤسسات الدولية على تصنيف الدول إلى أربع مجموعات رئيسية بناءً على الدخل القومي الإجمالي:
– دول منخفضة الدخل (Low Income)
– دول متوسطة الدخل – شريحة دنيا (Lower-Middle Income)
– دول متوسطة الدخل – شريحة عليا (Upper-Middle Income)
– دول مرتفعة الدخل (High Income)
وبالتالي، فإن ما يشير إليه الرئيس ترامب بـ “دول العالم الثالث” يندرج فعلياً تحت المجموعات الثلاث الأولى مجتمعة، وهي تضم ما يقرب من 135 دولة.
تطور اقتصادي متنوع
ويشدد البنك الدولي على أن الدول المصنفة كـ “منخفضة أو متوسطة الدخل” تختلف بشكل كبير من حيث النموه الاقتصادي والتطور. فبعض هذه الدول، مثل الصين والبرازيل وتركيا والمكسيك، تمتلك اقتصادات صناعية ضخمة ومتنوعة. بينما تشهد دول أخرى، مثل الهند، نمواً اقتصادياً سريعاً يجعلها من بين الأسرع في العالم.
بالإضافة إلى ذلك، تتمتع بعض دول “متوسطة الدخل” بمؤشرات تعليمية وصحية جيدة، مما يجعلها تضاهي بعض الدول الغربية. كما أن العديد منها يمتلك هيكلاً سكانياً شاباً يساهم في دفع عجلة النمو الاقتصادي في المستقبل.
دور العمالة المهاجرة في الاقتصاد الأمريكي
تشير البيانات الصادرة عن مكتب إحصاءات العمل الأمريكي لعام 2024 إلى أن العمال المولودين خارج الولايات المتحدة يشكلون ما نسبته 19.2% من إجمالي القوة العاملة. ويبرز التقرير فجوة واضحة في معدلات المشاركة في سوق العمل، حيث تبلغ 66.5% للمهاجرين مقابل 61.7% للمواطنين الأمريكيين المولودين داخل البلاد.
وبالتالي، يمثل المهاجرون مصدراً رئيسياً لسد النقص في العديد من القطاعات، خاصةً تلك التي تتطلب مهارات منخفضة ومتوسطة. هذا النقص يزداد حدةً مع تراجع معدلات المواليد وتزايد أعداد المتقاعدين.
تشير التحليلات المقبلة إلى أن أي قيود على الهجرة قد تؤدي إلى تفاقم هذه المشكلات، وتهدد النمو الاقتصادي في الولايات المتحدة. من المتوقع أن يستمر النقاش حول هذه القضية في الكونغرس خلال الأشهر القادمة، مع التركيز على تقييم تأثير قيود الهجرة على القطاعات الحيوية في الاقتصاد الأمريكي.
