يُشكّل السكري تحدياً متزايداً للاقتصادات في منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا، حيث لم يعد مجرد عبء صحي، بل بات يُهدد النمو الاقتصادي المستدام. تُظهر دراسة حديثة أن التكلفة الاقتصادية للمرض آخذة في الارتفاع بشكل ملحوظ، ومن المتوقع أن تتجاوز 1.5 تريليون دولار سنوياً بحلول منتصف القرن، مما يستدعي تحركاً سريعاً من قبل صانعي السياسات.

أظهرت نتائج الدراسة، التي أجرتها جامعة برمنغهام دبي بالتعاون مع منظمة الصحة العالمية، أن المنطقة تواجه أزمة صامتة تتسبب في خسائر فادحة تتجاوز مجرد تكاليف العلاج المباشرة. وتشير البيانات إلى أن هذا الارتفاع يعزى إلى عوامل متعددة، بما في ذلك التغيرات في نمط الحياة وزيادة معدلات السمنة.

التكلفة الاقتصادية للسكري في المنطقة: نظرة تفصيلية

بلغت التكلفة الإجمالية للسكري في 22 دولة في الشرق الأوسط وشمال إفريقيا حوالي 639 مليار دولار في عام 2023، وهو ما يمثل 5.9% من الناتج المحلي الإجمالي الإقليمي. هذا الرقم لا يعكس فقط التحديات الصحية، بل يشير إلى تراجع كبير في الإنتاجية الاقتصادية بسبب المرض.

وتشير الدراسة إلى أن غالبية هذه التكلفة، حوالي 89%، تأتي من الخسائر غير المباشرة، مثل انخفاض الإنتاجية، وغياب العمال، والوفيات المبكرة. هذه الخسائر تتجاوز بكثير تكاليف العلاج المباشرة، مما يؤكد أن الأزمة تتجاوز القطاع الصحي لتؤثر على الاقتصاد بشكل عام.

في حال استمرار الوضع الحالي، يُتوقع أن ترتفع التكلفة السنوية للسكري إلى 1.5 تريليون دولار بحلول عام 2050، وهو ما يزيد على ضعف التكلفة الحالية. وقد يعيق هذا الرقم الهائل مساعي التنمية المستدامة في المنطقة.

الإنتاجية وغياب العمال: الجزء الأكبر من العبء

توضح الدراسة أن التأثير الأكبر للسكري على الاقتصاد لا يكمن في تكاليف العلاج، بل في الخسائر الإنتاجية الناتجة عن تراجع صحة القوى العاملة. غالبًا ما يُضطر الأفراد المصابون بالسكري إلى أخذ إجازات مرضية أو تقليل ساعات عملهم، مما يؤدي إلى انخفاض في الإنتاجية الإجمالية.

السكري في الشرق الأوسط وشمال إفريقيا: لماذا المنطقة الأكثر تضرراً؟

تُسجل منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا أعلى معدلات انتشار للسكري على مستوى العالم، سواء بين البالغين أو بين الأطفال والمراهقين. يوجد في المنطقة أكثر من 192 ألف طفل ومراهق مصاب بالنوع الأول من السكري، وهو رقم يتجاوز العديد من المناطق الأخرى.

يعود هذا الارتفاع إلى مجموعة من العوامل المترابطة، بما في ذلك التغيرات في الأنماط الغذائية، وزيادة استهلاك الأطعمة المصنعة والسكرية، وانخفاض النشاط البدني، والتغيرات في نمط الحياة المرتبطة بالت urbanisation. هذه العوامل تزيد من خطر الإصابة بالسكري، خاصة بين الفئات العمرية الشابة.

على سبيل المثال، تشير التقديرات إلى أن 16.3% من سكان الإمارات العربية المتحدة يعانون من السكري، مقارنة بمتوسط عالمي يبلغ حوالي 9.3%. هذا يدل على أن المنطقة تواجه تحدياً خاصاً يتطلب تدخلات مستهدفة.

صحة السكان والتنمية الاقتصادية: علاقة وثيقة

تؤكد الدراسة على العلاقة الوثيقة بين صحة السكان والتنمية الاقتصادية. فالاستثمار في الوقاية من السكري وتعزيز الصحة العامة ليس مجرد مسؤولية اجتماعية، بل هو استثمار اقتصادي ضروري. فالحد من انتشار المرض سيؤدي إلى زيادة الإنتاجية، وتقليل التكاليف الصحية، وتحسين جودة الحياة.

تحذير لصناع القرار: ضرورة الاستثمار في الوقاية

تُعد الرسالة الرئيسية للدراسة بمثابة تحذير مباشر لصناع القرار: السكري ليس مجرد مشكلة صحية مستقبلية، بل هو أزمة قائمة تتفاقم باستمرار. ومع أن الحلول الوقائية معروفة، مثل التوعية بأهمية الغذاء الصحي وممارسة الرياضة، إلا أن حجم الاستثمارات في الوقاية لا يزال غير كافٍ.

كما صرح الباحث المشارك في الدراسة، خالد المشرف، بأن السكري “يستنزف اقتصاداتنا بصمت”، وأن الاستمرار في تجاهل الوقاية سيجعل التكلفة “لا يمكن تحملها”. يجب على الحكومات والجهات المعنية تخصيص المزيد من الموارد للاستثمار في برامج الوقاية والسيطرة على السكري.

منهجية الدراسة: تقييم شامل للتكاليف

اعتمد الباحثون في تحليلهم على منهجية “تكلفة المرض”، مستندين إلى بيانات من الاتحاد الدولي للسكري، ومعهد القياسات الصحية والتقييم، والبنك الدولي. وقد أعطى النموذج أهمية خاصة لقيمة سنوات الحياة الإحصائية، وهي مقياس اقتصادي لتقييم تكلفة الوفاة المبكرة.

تُظهر هذه الدراسة بوضوح أن السكري أصبح عاملاً مباشراً في كبح إنتاجية المجتمعات وقدرتها على الحفاظ على وتيرة نمو مستدامة. لذا، من الضروري معالجة هذه القضية بشكل استباقي لحماية النمو الإقليمي.

تتطلب مواجهة هذا التحدي تعاوناً إقليمياً ودولياً وتبني استراتيجيات شاملة تركز على الوقاية، والكشف المبكر، والعلاج الفعال. الخطوات القادمة الحاسمة ستشمل تطوير خطط عمل وطنية وتنفيذ برامج توعية مكثفة وتشجيع السلوكيات الصحية. النجاح في هذه المساعي سيعتمد على التزام الحكومات والمجتمع المدني والقطاع الخاص.

شاركها.